بسم الله الرحمن الرحيم
هل تتلاعب الشركات السعودية برقم الأرباح لتؤثر في السعر العادل للسهم؟
د. محمد أل عباس
القوائم المالية عبارة عن لوحة فنية عن الشركة وأدائها، لكن لا أحد في الحقيقة يعرف الشركة أو أداءها أكثر من أولئك الذين رسموا تلك اللوحة، والقضية الأهم هي أننا لا نرى أداء الشركة – ولا نستطيع ذلك - حتى نحكم على صدق الصورة وتلك القوائم المالية فيما تصوره. تظهر القضية بوضوح أكثر عندما تحاول إدارة الشركة أن تظهر الأداء بغير حقيقته تحقيقا لغرض ما قد لا يكون في مصلحة صغار المساهمين.
في الماضي القريب استندت الأسواق المالية إلى المراجع الخارجي وتنظيم مهنة المحاسبة وما تصدره من معايير تحكم عملية التقرير عن أداء الشركة مما يقلل من قدرات إدارات الشركات على التلاعب بتلك القوائم. لكن برغم كل تلك الإجراءات والتطورات المذهلة في نظم الرقابة الداخلية والمراجعة الداخلية تفجرت قضية انهيارات الشركات الكبرى الأمريكية، التي انتهت بفاجعة انهيار مكتب اثر أندرسن أكبر مكتب للمراجعة في العالم في ذلك الحين. لقد انهارت الشركات بالرغم من كل تلك الإجراءات الرقابية وذلك بعد أن استطاعت مجالس إدارات الشركات الكبرى المنهارة أن تتلاعب برقم الأرباح وتظهر الوضع المالي للشركة بطريقة مغايرة للحقيقة. الإشكالية أن إدارات هذه الشركات استطاعت أن تتلاعب برقم الأرباح مستخدمة المعايير المحاسبية المقبولة وهو ما أصبح يسمى بإدارة الأرباح. فالشركة وباستخدام المعايير المحاسبية تعدل في رقم الأرباح (ترفعه أو تخفضه)، بينما يوقع المراجع بكل ثقة على سلامة تلك القوائم وتستند إليها المؤسسات المالية في تحديد السعر العادل للسهم. مع انهيار الشركات العالمية أصبحت قضية إدارة الأرباح (تعديل رقم الأرباح بحسب رغبة الإدارة وقت التقرير) هما يؤرق الأسواق المالية لأن الثقة في التقارير المالية التي تصدرها الشركات أصبحت محل جدل كبير.
في تلك اللحظات العصيبة من عمر مهنة المحاسبة كانت قضية حوكمة الشركات تتطور بسرعة مذهلة واستطاعت أن تسد ثغرة الثقة التي ظهرت في عجز المراجعين الخارجيين عن اكتشاف تلك التلاعبات والسيطرة على سلوك الإدارة. كان مؤملا في قواعد الحوكمة وتطبيقاتها أن تعيد الثقة في القوائم المالية التي تعدها الإدارة. من هنا ومع انتشار ظاهرة الحوكمة حول العالم ظهرت الدراسات التي تستكشف قدرات قواعد الحوكمة في السيطرة على مقدرة الإدارة على التلاعب بالأرباح، وقد أشارت معظم هذه الدراسات إلى أن تلك القواعد تسهم فعلا في الحد من تلك الظاهرة.
في السعودية اختبرت ظاهرة إدارة الأرباح بعدد من الدراسات وكان آخر تلك الدراسات دراسة الدكتور السهلي، وهو رئيس قسم المحاسبة في جامعة الملك سعود، والتي لاحظ من خلالها أن الشركات تتلاعب برقم الأرباح إذا كانت تريد زيادة رأسمالها. من هنا زاد اهتمامي بدراسة أثر الحوكمة في إدارة الأرباح في الشركات السعودية. وبشكل خاص فقد أثارني السؤال: هل تطبيق قواعد الحوكمة في الشركات السعودية يسهم في التقليل من قدرات الإدارة وتلاعبها؟ قمت بتجميع وتحليل بيانات الشركات التي نشرتها في قوائمها المالية عن تطبيقاتها للحوكمة وعن أرباحها، لكن الدراسة لم تلاحظ اثر لكل قواعد الحوكمة المطبقة في المملكة على التأثير في قدرات الإدارة. كان هناك أثرا واضح إذا كان من ضمن مجلس الإدارة أعضاء يمثلون هيئات أو شركات أخرى. كما ظهر أثر للمراجع الخارجي إذا كان من كبار المراجعين. لكن أهم قواعد الحوكمة وهو عدد الأعضاء المستقلين سواء في مجلس الإدارة نفسه أو حتى في لجنة المراجعة لم يكن ذا أثر في عملية التقرير عن الأرباح.
هكذا يبدو أن الشركات السعودية وحتى الآن لم تأخذ قواعد الحوكمة بطريقة جدية بعد. كما أن عملية اختيار أعضاء المجلس وخاصة المستقلين منهم بعيدة عن أي عملية انتخاب حقيقية، ويبدو أن للعلاقات الشخصية دورا بارزا. ومن جانب لجنة المراجعة فليس من أثر واضح لها حتى الآن ومرة أخرى فإن طريقة اختيار أعضاء اللجنة لها دور في تعطيل فعاليتها. لقد استنتجت عديدا من الدراسات المتخصصة أنه كلما كان أعضاء لجنة المراجعة من المستقلين الذين لديهم خبرة مالية ومحاسبية كبيرة كان أثرهم واضحا في الحد من قدرات الإدارة وتحسنت التقارير المالية. وبرغم أن قواعد الحوكمة لدينا لم تغفل نوعية أعضاء لجنة المراجعة وأهمية خبراتهم إلا أن الشركات تهمل هذه الفقرة بشكل خاص.
ومن خلال الدراسة التي أجريتها تبين أيضا أن الشركات السعودية لا تهتم بعملية التقرير عن ممارساتها قواعد الحوكمة لذلك بقيت الأسئلة مفتوحة حول فاعلية تلك القواعد ويبدو أن الشركات تفضل أن تمارس الحوكمة بالطريقة التي تدعمها وتعزز من حظوظها. لذلك تبقى درجة الثقة في القوائم المالية التي تصدرها الشركات السعودية محل تساؤل برغم قواعد الحوكمة. ومع ذلك فليست المشكلة في تطبيق الحوكمة من عدمه بل المشكلة أن الإخلال بقواعد الحوكمة يشبه الأمراض المزمنة كالضغط والسكر فهي بحد ذاتها غير مقلقة ولكن لأنها تتسبب في أمراض فتاكة فإنها تصبح كارثية. إن الإهمال بقواعد الحوكمة سيخل بالثقة في القوائم المالية ولا ريب، خاصة مع تزايد الأدلة حول ممارسات الإدارة وتلاعبها برقم الأرباح، وذلك الخلل في الثقة سيربك السوق المالية حتما. فكيف لنا أن نثق بتقرير مؤسسة عن السعر العادل لشركة ما مهما بلغ حجم المؤسسة المالية وثقلها طالما أنها ولتحديد ذلك السعر العادل تعتمد على قوائم مالية غير موثوق بها؟ لذلك فإن دعمنا ممارسات الحوكمة الجيدة يعني أسعارا عادلة موثوقة، لذلك لم يعد من مفر للمؤسسات المالية التي تقدم توصياتها عن الأسعار العادلة من أن تطمئن أولا على ممارسات الإدارة للحوكمة. فإذا ظهر لها خلالا في ذلك فيجب عليها أن تحدد السعر العادل في ضوء تحفظ.
جريدة الاقتصادية
http://www.aleqt.com/article.php?do=show&id=9253