د. سامي السويلم
في الصحيح عن النبي, صلى الله عليه وسلم, أنه قال: "البيّعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صَدَقا وبيّنا بورك لهما
في بيعهما، وإن كَذَبا وكَتَما مُحِقت بركةُ بيعهما". وعنه صلى الله عليه وسلم أيضاً أنه قال: "أطيب الكسب عمل
الرجل بيده, وكل بيع مبرور".
تبين هذه النصوص بركة البيع المشروع وما يتضمنه من البر. والبر: هو الخير الكثير، وهو معنى البركة نفسه.
فما الذي يجعل البيع نافعاً مفيداً حتى يوصف بالبركة والبر؟
إن البيع مبادلة لمالين مختلفين، وهذا الاختلاف هو الذي يسمح بانتفاع الطرفين، لأن كل طرف في المبادلة يبذل ما يقل
انتفاعه به ليحصل على ما هو أكثر نفعاً، فتكون النتيجة انتفاع الطرفين معاً. وهذه هي القيمة المضافة التي يولدها
التبادل ويتحدث عنها الاقتصاديون. وبانتفاع الطرفين ترتفع إنتاجية كل منهما. وإذا تحقق ذلك في كل مبادلة
تضاعفت إنتاجية المجتمع، وتحققت بذلك البركة التي وعد بها النبي, صلى الله عليه وسلم.
ولكن هل كل بيع يصدق عليه أنه مبرور ومبارك؟ هناك من المبادلات ما لا يتحقق فيه انتفاع الطرفين، ومن ثم ينتفي عنه
وصف البر والبركة. فالإسراف يتضمن بيعاً لا يحقق نفع الطرفين، بل هو كسب للبائع وخسارة على المسرف المبذر
لماله بغير وجه حق. ولهذا نهى الله تعالى عن الإسراف والتبذير وحذر منهما.
ومن ذلك البيوع الصورية التي لا يراد بها الانتفاع بالمبيع، لا بالاستهلاك ولا بالاستثمار، وإنما هي ذريعة للحصول على
النقد الحاضر بأكثر منه في الذمة، وهي التي يسميها الفقهاء بيوع العينة. فهذه البيوع لا تحقق منفعة البيع المبرور
ولا البركة التي وعد بها النبي, صلى الله عليه وسلم، لأنها لا تراد حقيقة، بل هي حيلة على الربا المحرم. ولهذا
ليس من شأن هذه البيوع البيان والوضوح والشفافية التي أمر بها النبي, صلى الله عليه وسلم، وذلك أنه إن صرح
الطرفان عند التعاقد بالهدف من المعاملة، وهو النقد الحاضر بأكثر منه، صارت المعاملة ممنوعة باتفاق الفقهاء.
وإن تواطآ على كتمان الهدف محقت بركة البيع بنص النبي, صلى الله عليه وسلم. فهي بيوع ممحوقة البركة،
مسلوبة البر، ولو لم يكن في ذم الحيل الربوية إلا هذا لكفى.
والقيمة المضافة التي يحققها البيع المبرور هي التي تجبر الزيادة في الثمن مقابل الأجل، وبذلك يفترق البيع عن الربا
ويتحقق الرد على شبهة المشركين الذين قالوا: إنما البيع مثل الربا. فرد الله تعالى عليهم بقوله: ?وأحل الله
البيع وحرم الربا?. فالبيع الذي أحله الله هو الذي يحقق منفعة الطرفين ومن ثم البركة التي نص عليها الحديث.
وهذه القيمة المضافة هي التي تجبر وتعادل تكلفة الزيادة في الثمن مقابل الأجل، فيصبح البيع بثمن مؤجل محققاً لمنفعة
الطرفين ومن ثم للبركة المرجوة للبيوع المشروعة. أما البيوع ممحوقة البركة التي لا تحقق القيمة المضافة من
التبادل فلا تدخل في نص الآية. وبيوع الحيل الربوية لا تحقق قيمة مضافة للمدين ولذلك تصبح الزيادة مقابل الأجل
تكلفة محضة دون مقابل، وبذلك ينتفي الفرق بين البيع والربا الذي لأجله أحل الله تعالى الأول وحرم الثاني. وبذلك
تصبح الآية دليلا على الفرق بين البيع والربا، ودليلا في الوقت نفسه على بطلان جميع الحيل الربوية، وهذا من إعجاز
القرآن الذي وصفه الله تعالى بقوله: (تبياناً لكل شيء)، وأنه (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنـزيل من
حكيم حميد).
وإذا كان البيع المبرور مأموراً به، فإن الامتناع عن البيع المبرور قد يكون منهياً عنه. ومن أوضح الأمثلة على ذلك
الاحتكار الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يحتكر إلا خاطئ". فإن الاحتكار امتناع من بيع السلع
الضرورية التي تشتد حاجة المجتمع إليها ويتضرر الناس من شحها في الأسواق. فبيع هذه السلع يحقق مصلحة
ضرورية للمجتمع، مع كونها تحقق منفعة الطرفين: البائع والمشتري, لكن جشع البائع وحرصه على الاستكثار من
الربح يحمله على الامتناع من البيع على حساب الآخرين.
فالبيع المبرور هو أساس النشاط الاقتصادي النافع، وهو الذي تدور حوله عامة أحكام البيوع والمبادلات المالية. فكل
ما من شأنه أن يحقق منفعة الطرفين من التبادل فهو سبب من أسباب البركة، ويدخل في عموم البيع المبرور، وكل ما
ينافي ذلك فهو منهي عنه لكونه سبباً في محق البركة وغياب منفعة التبادل.
والحمد لله رب العالمين
sami@suwailem.net