بسم الله الرحمن الرحيم
هل فقدنا السيطرة على التضخم؟!
د. عبد الرحمن محمد السلطان - أكاديمي وكاتب أقتصادي 20/01/1429هـ
معالجة مشكلة التضخم المتفاقمة في المملكة تواجهها معضلتان رئيسيتان. الأولى: أن العالم من حولنا قلق من إمكانية حدوث تراجع في الاقتصاد الأمريكي، والاقتصاد العالمي بشكل عام، أكثر من قلقه من إمكانية ارتفاع معدلات التضخم، وهذا يضطرنا إلى اتخاذ خطوات تفاقم من مشكلة التضخم محليا ولا تسهم في الحد منه. المعضلة الثانية: أن الآثار الاقتصادية المترتبة على ارتفاع معدلات التضخم تجبرنا على اتخاذ إجراءات نعلم يقينا أنها ستزيد من الضغوط التضخمية.
فمحاولة تفادي كساد الاقتصاد الأمريكي والاقتصاد العالمي بشكل عام، نتيجة تداعيات أزمة الرهن العقاري الأمريكية، ولدت ضغوطا هائلة على السلطات النقدية والمالية العالمية لاتخاذ كل خطوة ممكنة لتفادي ذلك، والتي من بينها قرارات تخفيض أسعار الفائدة المتتالية التي اتخذها الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، والذي كان آخرها قراره الثلاثاء الماضي إجراء أكبر خفض في معدلات الفائدة منذ عام 1999، بتخفيضه سعري الفائدة الرئيسيين بثلاثة أرباع نقطة، حيث خفض سعر التمويل الفيدرالي إلى 3.5 في المائة، وخفض سعر الخصم إلى 4 في المائة، ومن غير المستبعد على الإطلاق أن يقر الاحتياطي الفيدرالي خفضا إضافيا في معدلات الفائدة في اجتماعه المقرر بعد غد الأربعاء.
ربط الريال بالدولار يعني أنه ليس هناك من خيار أمام مؤسسة النقد العربي السعودي إلا أن تجاري تلك التخفيضات، لذا وكما هو متوقع قررت مؤسسة النقد والسلطات النقدية الأخرى في الدول الخليجية مجاراة هذا التخفيض، حيث قررت مؤسسة النقد تخفيض سعر إعادة الشراء العكسية، وهو سعر الفائدة الذي تقرض به البنوك بعضها بعضا فوائض احتياطياتها لدى مؤسسة النقد لليلة واحدة، نصف نقطة مئوية ليصبح 3.5 في المائة. وفي محاولة للحد من التأثير السلبي لذلك في السيولة المحلية فقد أبقت المؤسسة سعر اتفاقية إعادة الشراء، وهو سعر الفائدة الذي تقرض به مؤسسة النقد البنوك، كما هو عند 5.5 في المائة، كما زادت نسبة الاحتياطي القانوني، وهي نسبة الودائع التي يجب على البنوك الاحتفاظ بها لدى مؤسسة النقد، إلى 10 في المائة بدلا من 9 في المائة.
ارتفاع معدل التضخم "المعلن" في كانون الأول (ديسمبر) الماضي إلى 6.5 في المائة يعني أن معدلات الفائدة المحلية أصبحت الآن أقل من معدلات التضخم، بالتالي فإن معدلات الفائدة الحقيقية سالبة، والمقترِض يعيد مبلغا قوته الشرائية تقل عن المبلغ المقترَض أساسا، ما يمثل إغراء هائلا للاقتراض يتسبب في زيادة معدلات نمو السيولة المحلية ومعدلات التضخم. أي أننا اضطررنا لاتخاذ خطوات نعلم يقيناً أنها ستزيد من الضغوط التضخمية، ومع ذلك فنحن لا نملك خيارا آخر، بخاصة في ظل ارتباط الريال بالدولار، الذي يجعل تماثل أسعار الفائدة على العملتين أمرا لازما، فدون ذلك، ستزيد حدة المضاربات على الريال، وستواجه مؤسسة النقد صعوبة في الدفاع عن سعر صرفه.
المعضلة الثانية: هي أن ارتفاع معدلات التضخم يلحق بالغ الضرر بذوي الدخول الثابتة، حيث يتسبب التضخم في تراجع القوة الشرائية لدخولهم، والحل الوحيد المتاح هو زيادة رواتبهم لتفادي حدوث تراجع حاد في مستويات معيشتهم. وفي ظل انفتاح اقتصادنا واعتمادنا الكبير على العمالة الأجنبية، فإن تراجع سعر صرف الدولار أمام معظم العملات الأخرى وارتفاع معدلات التضخم يتسببان أيضا في تدني الدخل الحقيقي للعمالة الأجنبية، ويقللان من حوافز عملها في المملكة، والسبيل الوحيد لإبقاء تلك العمالة هو في زيادة أجورها بما يعوضها عن كل ذلك. ما يفسر قرارات زيادة رواتب العاملين الأجانب في القطاع الصحي بنسب وصلت لبعض التخصصات إلى ما يزيد على 90 في المائة، والزيادات في الأجور التي اضطر العديد من مؤسسات القطاع الخاص إلى إقرارها في رواتب عمالته، بل وحتى العائلات وجدت نفسها مجبرة على زيادة أجور العمالة المنزلية بعد تفاقم مشكلة هروبها ورفضها الاستمرار في العمل ما لم تزد أجورها.
ما يعني أننا أيضا لا نستطيع أن نحارب التضخم من خلال الحد من معدلات نمو الأجور، وستجبرنا الآثار الاقتصادية المترتبة على ارتفاع معدلات التضخم على اتخاذ إجراءات لا مناص منها، رغم إدراكنا لآثارها السلبية في معدلات التضخم. فمع استمرار ارتفاع معدلات التضخم ستزداد الضغوط لزيادة رواتب العاملين، بما في ذلك العاملون السعوديون في القطاعين العام والخاص، وزيادة برامج الدعم والإعانات الحكومية، أي ضخ مزيد من السيولة في اقتصاد يخنقه فائض السيولة ويعاني ارتفاعا مفرطا في معدلات نموه.
إن عدم إعادة تقييم سعر صرف الريال أمام الدولار، رغم كونه مقوما حاليا بأقل من قيمته العادلة بما يزيد على 30 في المائة، وعجزنا التام عن التحكم في معدلات نمو السيولة المحلية خلال السنوات الأربع الماضية، أوجدا واقعا يترتب عليه ضخ مزيد من السيولة في اقتصاد يعاني أصلاً نموا مفرطا فيها، مع استمرار تراجع معدلات الفائدة وزيادات الرواتب والإعانات، ما يعني مزيدا من الضغوط التضخمية، وبالتالي فقدنا أي قدرة على السيطرة على معدلات التضخم. وسيكون المستهلك وحيدا في مواجهة شرسة مع موجة الغلاء المتفاقمة، قد يخفف من وطأتها عليه تغيير عاداته الاستهلاكية، والحد من الإسراف والتبذير، والبعد عن الولاء المطلق لمنتج معين، والحرص على البحث عن سلع بديلة سعرها أنسب، بل حتى مقاطعة السلع التي يرى أن أسعارها ارتفعت بصورة غير مبررة.
الاقتصادية
http://www.aleqt.com/article.php?do=show&id=8201