اختلاط الجنسين في نظر الإسلام ، للشيخ محمد الخضر يرحمه الله
كاتب الموضوع
رسالة
جعبة الأسهم
(مؤسس الحلال الطيب)
تاريخ التسجيل : 16/10/2007رقم العضوية : 1المساهمات : 5199النشاط : الكنية : أبو عبدالرحمنحكمتي : من يجادل كثيرا يعمل قليلا
موضوع: اختلاط الجنسين في نظر الإسلام ، للشيخ محمد الخضر يرحمه الله 2010-01-18, 10:37 pm
اختلاط الجنسين في نظر الإسلام ، للشيخ محمد الخضر يرحمه الله
الشيخ محمد الخضر حسين رحمه الله ألقى أحد الأساتذة محاضرة تعرض فيها لاختلاط الفتيان والفتيات في الجامعة، وأبدى استحسانه لهذا الاختلاط، ووقف موقف الدفاع عنه. وما كنا ننتظر من الأستاذ المحاضر وقد قضى سنين غير قليلة وشؤون المجتمع تمر عليه بمقدماتها وبما ينتج عنها من خير وشر، أن يقول ما قاله في تلك المحاضرة. بل كنا ننتظر منه أن يملي على أبنائنا وبناتنا كلمات يتلقونها على أنها آراء أحكمتها التجارب، فيستنيرون بها في حياتهم المحفوفة بالأخطار من كل جانب. ولكن الأستاذ لم يشأ إلا أن يتناول في محاضرته مسألة اختلاط الفتيان والفتيات، ويرضى عن ذلك الاختلاط، صارفا النظر عما يجر إليه من الانحلال في الأخلاق، وغمز في الأعراض. وغرضنا من هذه المحاضرة نقد كلمات وردت في محاضرة الأستاذ، وإنما ننقدها على طريقة آداب البحث، وما تقتضيه قوانين المنطق، ثم انظروا ماذا ترون. وما كان لي ولا للأستاذ وقد أخذنا نبحث في شأن اجتماعي أن نهمل وجهة الدين الإسلامي في هذه المسألة الهامة، فإذا نحن حققنا النظر فيها من حيث اتجاه الدين الإسلامي، وأعقبناه بالنظر في حكمة هذا الاتجاه، استطعنا أن نحكم على ما يقال في اختلاط الفتيان والفتيات بين جدران الجامعة، أو حول جدرانها، ونحن على بينة من أمر هذا الحكم. قال الأستاذ في محاضرته: "ويتصل بخطأ الجمهور في فهم رسالة الجامعة مسألة قبول الفتيات المصرية طالبات في الجامعة". يعد الأستاذ فيما أخطأ الجمهور في فهمه من رسالة الجامعة مسألة قبول الفتيات المصريات طالبات في الجامعة، ويريد بخطأ الجمهور إنكارهم لما صنعته الجامعة من قبولهن وخلطهن بالفتيان في حجرات التدريس. والواقع أن الجمهور لم يخطئ، وأن الجامعة هي التي أخطأت في هذا الخلط، ذلك أن جمهور الأمة المصرية يستضيء في حياته بدين قامت لديه الأدلة القاطعة على أنه وحي سماوي، لا يأتيه الباطل من يديه ولا من خلفه، فإذا عرضت له مسألة اجتماعية كالجمع بين الفتيان والفتيات على الوجه الذي يقع في الجامعة، أقبل يستفتي دينه الحق، فإن وجده قد أذن في ذلك، سكت عنه ورضي به، وإن وجده قد نهى عنه، بادر إلى إنكاره. وتحريم الدين لاختلاط الجنسين على النحو الذي يقع في الجامعة معروف لدى عامة المسلمين، كما عرفه الخاصة من علمائهم، وأدلة المنع واردة في الكتاب والسنّة وسيرة السلف الذين عرفوا لباب الدين، وكانوا على بصيرة من حكمته السامية. يقول الله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} (النور:30)، ويقول: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنّ} (النور:31). ومعنى غضّ البصر صرفه عن النظر الذي هو وسيلة الفتنة، والوقوع في فساد، ومن ذا الذي يجمع الفتيان والفتيات في غرفة وينتظر من هؤلاء وهؤلاء أن يصرفوا أبصارهم عن النظر، ولا يتبعوا النظرة بأخواتها؟ وهل يستطيع أحد صادق اللهجة أن يقول: إن أولئك المؤمنين والمؤمنات يحتفظون بأدب غضّ أبصارهم من حين الالتقاء بين جدران الجامعة إلى أن ينفضّوا من حولها، والشريعة التي تأمر بغض النظر عن النظر إلى السافرات، تنهي أولي الأمر عن تصرف شأنه أن يدفع الفتيان والفتيات إلى عواقب وخيمة؟ ويقول الله تعالى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْأِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} (النور:31). والزينة ما يتزين به من نحو القرط والقلادة والخاتم والوشاح والشعر، والأصباغ من نحو الكحل والخضاب، والملابس الأنيقة، وما ظهر من الزينة هو الثوب الذي يستر الجسد حتى لا يظهر ما تحته من حلي وشعر ونحوه. ثم إن القرآن قد استثنى طائفة من الناس تكثر مداخلاتهم للمرأة فيكون في التزامها التستر الذي تلزمه مع الأجنبي، مشقة عليها، فأذن لها في عدم زينتها منهم، ثم إن توقع الفساد منهم شأنه أن يكون مفقوداً أو نادراً، إما لشدة القربة، كالأب والابن والأخ والخال والعم وابن الأخ وابن الأخت، وإما لأن شأنهم الغيرة على حفظ عرض المرأة كأبي الزوج وابنه، فإن أبا الزوج أو ابنه تدعوه الغيرة على أن يحافظ على عرض المرأة؛ لأن في حفظ عرضها حفظاً لعرض ابنه إن كان أباً، أو لعرض أبيه إن كان ابناً. وهؤلاء وإن اشتركوا في جواز رؤية الزينة الباطنة، لا يتساوون فيما يصح أن يطلع عليه، فالزوج يحل له النظر إلى ما شاء، وأما الابن والأب والأخ والجد وكل ذي محرم، فلا يجب على المرأة أن تستر منهم الشعر والنحر والساقين والذراع، وأما غير أولي الإربة من الرجال، وهم الذين عرف منهم التعفف وكانوا على حالة من لا يقدر على مباشرة النساء، كالطاعنين في السن الذين عرفوا بالصلاح وعدم الحاجة إلى النساء، فإنما يحل للمرأة أن تظهر أمامهم في ثياب صفيقة وإن لم تكن عليها ملحفة. وليس من شك في أن طالبات الجامعة لا يضربن بخمرهن على جيوبهن، وقد يأتين في أجمل ثيابهن، ويختلطن بفتيان ليس بينهم وبينهن صلة من الصلات المشار إليها في الآية الكريمة. ويقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ} (الأحزاب:59). الجلباب: الثوب الذي يستر المرأة من فوق إلى أسفل، أو كل ثوب تلبسه المرأة فوق ثيابها، وإدناؤه عليهن إرخاؤه عليهن، قال ابن عباس وجماعة من السلف: أن تلوي الجلباب فوق الجبين وتشده ثم تعطفه على الأنف، فتستر الصدر ومعظم الوجه إلا عينيها. ثم ذكر حكمة هذا الستر، وهي أن التستر يدل على العفاف والصيانة، إذ من كانت في هذا الحال من التستر لا يطمع الفساق في أن ينالوا من عرضها، فلا تلقى من الفساق تعرضاً يؤذيها مثلما تلقى المتبرجات بزينتهن، وذلك معنى قوله تعالى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ}. والأحاديث الصحيحة الواردة في النهي عن اختلاط المرأة بغير محرم لها، تدل بكثرتها على أن مقت الشريعة الغرَّاء لهذا الاختلاط شديد، وإن عنايتها بأمر صيانة المرأة بالغة، وأذكر منها ما رواه البخاري في صحيحه عن أبي سعيد الخدري: قالت النساء للنبي -صلى الله عليه وسلم- غلبنا عليك الرجال، فاجعل لنا يوماً من نفسك، فوعدهن يوماً لقيهن فيه، فوعظهن وأمرهن"، ولو كان اختلاط الطلاب بالطالبات مما يأذن به الدين، لكان للنساء أن يجلسن مع الرجال في مجلس رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولما قلن له: غلبنا عليك الرجال فاجعل لنا يوماً من نفسك ولما وعدهن يوماً لقيهن فيه وحدهن. وأذكر منها ما رواه الإمام البخاري في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت: "لقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصلي الفجر، فيشهد معه نساء من المؤمنات متلفعات في مروطهن، ثم يرجعن إلى بيوتهن ما يعرفهن أحد"، ولو كان اختلاط الرجال بالنساء مأذوناً فيه لما احتاج المؤمنات إلى أن يتلفعن بمروطهن ويرجعن إلى بيوتهن، دون أن يعرفهن أحد. وأذكر منها ما رواه البخاري في صحيحه عن ابن عباس -رضي الله عنهم- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم، ولا يدخل عليها رجل إلا ومعها محرم، فقال رجل: يا رسول الله إني أريد أن أخرج في جيش كذا وكذا وامرأتي تريد الحج، فقال: أخرج معها"، ولو كان اختلاط النساء والأجانب مأذوناً فيه، لما حرَّمت الشريعة على المرأة أن تسافر لأداء فريضة الحج إلا أن يكون معها محرم، ولما نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن أن يدخل رجل على امرأة إلا ومعها محرم. وأذكر منها ما رواه البخاري في صحيحه عن أم سلمة - رضي الله عنها - قالت: " كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-إذا سلَّم، قام النساء حينما يقضي تسليمه، وهو يمكث في مقامه يسيراً قبل أن يقوم، قالت: نرى والله أعلم أن ذلك لكي ينصرف النساء قبل أن يدركهن الرجال". فقيام النساء وانصرافهن عقب تسليمه -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنه مأذون لهن في الصلاة دون البقاء في المسجد لغير صلاة، وقد أشارت رواية الحديث إلى أن مكث النبي -صلى الله عليه وسلم- في مقامه عقب الصلاة من أجل تسكين النساء من الانصراف؛ لأن الرجال لا يقومون من موضع الصلاة إلا إذا قام عليه الصلاة والسلام، وفي هذا شاهد على كراهة الشارع لاختلاط الرجال الأجانب بالنساء، ثم إن سنة النساء في صلاة الجماعة أن يصلين خلف صفوف الرجال، روى البخاري في صحيحه عن أنس بن مالك -رضي الله عنه-أنه قال: "صلى النبي -صلى الله عليه وسلم- في بيت أم سليم، فقمت ويتيم خلفه وأم سليم خلفه". ويدلكم على أن النهي عن اختلاط الرجال بالنساء كان معروفاً بين الصحابة - رضي الله عنهم -، حتى أصبحت قاعدة يذكرونها عندما يشتبه عليهم الأمر في بعض الآثار أو الأحاديث، ما رواه الإمام البخاري في صحيحه عن ابن جريح قال: "أخبرني عطاء إذ منع ابن هشام الطواف مع الرجال، قال: كيف يمنعهن وقد طاف نساء النبي -صلى الله عليه وسلم- مع الرجال، قلت: أبعد الحجاب أو قبل؟ قال: أي لعمري لقد أدركته بعد الحجاب، قلت: كيف يخالطن الرجال؟ قال لم يكن يخالطهن: كانت عائشة - رضي الله عنه- تطوف في حجرة من الرجال لا تخالطهم"، والحجرة الناحية المنفردة، تقول رأيت رجلاً يسير من القوم حجرة أي ناحية منفردة. فانظر كيف بدا لابن هشام أن يمنع النساء الطواف مع الرجال أخذا بالقاعدة المعروفة في الشريعة من منع اختلاط النساء بالرجال، ولما أنكر عليه عطاء لم يقل له: إن اختلاط النساء بالرجال لا حرج فيه، ولكنه استدل بحديث أن نساء النبي -صلى الله عليه وسلم- كن يطفن مع الرجال، ولما بدا لابن جريج أن طوافهن مع الرجال يقتضي الاختلاط بهم، والاختلاط محظور في الشريعة، قال مستشكلا الإذن لهن في الطواف مع الرجال: كيف يخالطهن الرجال؟ فلم يقل له ابن جريج: وأي مانع من هذا الاختلاط، بل بيّن له أنهن يطفن مع الرجال دون أن يخالطنهم. وليست نصوص الدين وحدها هي التي تسوق الجمهور إلى إنكار اختلاط الطلاب والطالبات، بل المشاهدات والتجارب قد دلتا على أن في هذا الاختلاط فساد لا يستهان به، ومن أنكر أن يكون لهذا الاختلاط آثار مقبوحة، فإما أن يكون غائبا عن شؤون المجتمع، لا يرقبها من قريب ولا من بعيد، وإما أن يكون قد نظر إلى هذا الاختلاط وآثاره بعين لم تنبه إلى وجهة استقباحه ووجوب العمل على قطع دابره. ومن عمد إلى البلاد التي يباح فيها اختلاط الجنسين، ونظر إلى ما يقع فيها من فساد الأعراض، وقاسه بالفساد الذي يقع في البلاد التي يغلب على رجالها ونسائها أن لا يجتمعوا إلا على وجه مشروع، وجد التفاوت بين الفسادين كبيراً. بل لا نحتاج في معرفة هذا التفاوت إلى إحصاء مفاسد هذه وتلك، فإن المعروف بالبداهة أن الاختلاط يحدث في القلوب فتنة، ولا تلبث الفتنة أن تجر إلى فساد، فعلى قدر كثرة الاختلاط يكثر ابتذال الأعراض. قال الأستاذ: "وهي مسألة كانت قليلة الأنصار في الرأي العام"، يريد أن قبول الطالبات في الجامعة لم يرض عنه فيما مضى إلا قليل من الناس، والواقع أن الذين يرضون عن هذا الاختلاط لا يزال عددهم قليلاً إذا نظر إليهم إزاء من ينكرونه، ويشكون من سوء مغبته، ولو استفتيت الأمة استفتاء صحيحا؛ لظهر أن أنصاره لا يزالون في قلة، على أن المسائل الاجتماعية إنما يرجع الحكم فيها إلى الأدلة القائمة على رعاية ما يترتب عليها من مصالح أو مفاسد، أما كثرة الأنصار فلا تجدي أمام النصوص الشرعية، والأدلة المؤيدة بالتجارب ولو مثقال ذرة. قال الأستاذ: "بعد عشر سنوات من قبول هؤلاء الطالبات، قامت ضجة تنكر علينا هذا الاختلاط فلم نأبه له؛ لأن التطور الاجتماعي معنا، والتطور لا غالب له". ليس هناك تطور يعرض للاجتماع في نفسه، وإنما تطور الاجتماع أثر أفكار وأذواق وميول نفسية، ورقي هذا التطور أو انحطاطه يرجع إلى حال تلك الأفكار والأذواق والميول، فإن غلب على الناس جودة الفكر، وسلامة الذوق، وطهارة ميولهم النفسية، كان التطور الاجتماعي راقياً وهذا هو الذي لا تنبغي معارضته، ويصح أن يقال فيه: إنه تطور لا غالب له، أما إذا غلب على الناس انحراف الأفكار في تصور الشؤون الاجتماعية، أو تغلبت أهواؤهم على عقولهم، كان التطور الاجتماعي في انحطاط، وهذا هو الذي تجب معارضته، وأقل دعوة تقوم لإصلاحه يمكنها أن تقوِّم عوجه، وترد جماحه. وإذا كان اختلاط الجنسين من قبيل التطور الاجتماعي، فهو من نوع ما ينشأ عن تغلب الأهواء، وتقليد الغربيين في غير مصلحة، فيتعين على دعاة الإصلاح أن يجهروا بإنكاره، ويعملوا على تنقية المجتمع من أقذائه، ومتى قويت عزائمهم وجاهدوه من طرقه الحكيمة، أماطوا أذاه، وغلبوه على أمره. وما كانت حالة العرب في الجاهلية إلا تطوراً اجتماعياً، وقد قام النبي -صلى الله عليه وسلم- يحارب هذا التطور، فقضى عليه في أعوام غير كثيرة. ولو عرض حال فرنسا قبل الحرب، ونظرنا إلى ما كان فيها من تهتك، وحاول بعض عقلائهم التخفيف من شر ذلك الاستهتار، لوجد من يقول له: هذا التهتك تطور اجتماعي، والتطور الاجتماعي لا غالب له. فهل يرضى الأستاذ المحاضر أن يسكت دعاة الإصلاح عما يغلب في الناس من الفساد، وييئسوا من إصلاحه بدعوة أنه تطور اجتماعي، والتطور الاجتماعي لا غالب له. والذي نرى أن الإصلاح يسود بالدعاية الحكيمة، وقد يسود بقوة السلطان العادل متى كانت الأمة في عماية عن طريق الرشد، وصمم من مواعظ الحكماء، أما الباطل فإنما يسود بوجاهة أشياعه، أو قوة سلطانهم، وإذا تغلب باطل بالدعاية الماكرة، فلأن أنصار الحق كانوا غارقين في نوم ثقيل، ولا يرفع الباطل صوته إلا في بيئة غاب عنها الدعاة المصلحون. وقد حسبنا عندما سقطت فرنسا في هذه الحرب تلك السقطة المزرية، أن يأخذ منها رجالنا عبرة بالغة، فيعود الذين كانوا يحبذون السفور، واختلاط الجنسين، دعاة إلى أدب الإسلام من تستر المرأة بثياب العزة، وصيانتها عن مواقف الابتذال، ومواطن الاختلاط. ومن دواعي الأسف أن يتنبه رجال فرنسا قبل أن يتنبه كثير من رجالنا، ويأخذ من سقوط دولتهم عبرة، هي أن سبب ضعف فرنسا وانهيار بنائها هو انحلال أخلاق شبابها، وإغراقهم في الملاذ والشهوات، ولا إغراق في الشهوات أكثر من تخلية السبيل للنساء يخالطن الرجال، ويبدين لهن ما بطن من زينتهن دون أن تلتهب في نفس أبيها أو أخيها أو زوجها غير حامية. وقال الأستاذ المحاضر: " ومعنى العدل الذي يسوي بين الأخ وأخته في أن يحصل كل منهما أسباب كماله الخاص". لا يتنازع أحد في العدل بين الأخ والأخت، ولا يمانع من التسوية بينهما في تحصيل كل منهما كماله الخاص، لا يستدعي اختلاطها بالفتيان، بل يعد هذا الاختلاط عائقاً لها عن الوصول إلى كمالها الخاص، فإنه يذهب بجانب كبير من الحشمة وهدوء النفس ويهيئها لأن تنحدر في حفرة من سوء السمعة، ولو كان ولي أمرها الناصح في تربيتها، ينظر إلى هذه العاقبة بعين تدرك حقيقتها، لحال بينها وبين هذا الاختلاط بكل ما يملك من قوة. ونحن لا نعارض في تعليم المرأة، ولا في استمرارها على التعليم إلى أبعد مدى، ولكنا نريد الاحتفاظ بأساس كمالها الخاص وهو الصيانة ونقاء العرض، ولا شك في أن اختلاطها بالفتيان وسيلة قريبة إلى هدم ذلك الأساس، فالذين ينكرون اختلاط الطلاب بالطالبات هم الذين يناصرهم العدل الذي يسوي بين الأخ وأخته في أن يحصل كل منهما أسباب كماله الخاص. فللمرأة أن تطلب من العلوم ما وسعها أن تطلبه، ولكن على أساس الصيانة، فإن كان طلبها لبعض العلوم يعرض هذا الأساس للانتقاص، فلتكتف بما وصلت إليه يدها من علم، وفي الرجال كفاية للقضاء، والمحاماة، وعضوية مجلس النواب، إلى ما يشابه هذا من الأعمال التي لو تولتها المرأة لأنجزت بطبيعة العمل إلى عاقبة سيئة هي الاختلاط بالرجال. قال الأستاذ المحاضر: "ومعنا فوق ذلك منفعة الأمة من تمهيد الأسباب لتكوين العائلة المصرية على وجه يأتلف مع أطماعنا في الارتقاء القومي". إذا كنَّا لا نستسلم لتقليد أوربا في كل شأن من شؤون الاجتماع، وترفّعنا عن أن نجعل حال الأوربيين المثال الكامل للارتقاء القومي، قلنا: إن أساس ارتقائنا القومي هو الاحتفاظ بآداب ديننا، وأن يكون في فتياتنا علم واسع، وعزم صارم، وإدارة ماضية، وصبر على تحمل المشاق، وأن يكون في فتياتنا حشمة، وصيانة، وعلم يساعدهن على تأدية واجباتهن في الحياة من نحو تدبير المنزل، والقيام على تربية الولد، وقد دل النبي -صلى الله عليه وسلم- على هاتين المهمتين بقوله: "خير نساء ركبن الإبل صالح نساء قريش أحناه على ولد في صغره، وأرعاه على زوج في ذات يده". وأشار -صلى الله عليه وسلم- إلى مهمة تدبير المنزل بقوله: "والمرأة راعية على بيت زوجه". فمن أطماعنا أن تكون المرأة على خلق عظيم من الحشمة، بعيدة من مواطن الفتنة والريبة، فرغبتنا في تكوين العائلة المصرية على وجه يأتلف مع أطماعنا، تدعونا وتلح في دعوتنا إلى أن نجعل بين الفتيات والفتيان فارقاً يقطع مثار الفتنة، وتسلم به النفوس من خواطر السوء التي قد تنقلب إلى عزم ثم إلى مقدرة. وإذا كان النظر إلى زينة المرأة والتأمل في محاسن وجهها وسيلة تعلق القلب بها، وتعلق القلب مدرجة الفتنة، فالاختلاط الذي يستدعي تكرار النظر، ويجر إلى الأخذ بأطراف الحديث، يكون بلا ريب أمرا منكراً، إذ هو الوسيلة المباشرة لزلزلة نفوس الفتيان والفتيات بعد سكونها زلزلة قد تذهب بأعراض كانت مصونة، وإذا دخل ابتذال العرض في الأسرة، فمن أين لنا أن نكونها على وجه يأتلف مع أطماعنا في الارتقاء القومي ؟. وليس في حماية الفتاة من الاختلاط بغير محارمها، تضييق لدائرة الحياة في وجهها، وإنما هو احتفاظ بكرامتها، وتوفير لهنائها، إذ بصيانتها عن الاختلاط تعيش بقلب طاهر ونفس مطمئنة، وبهذه الصيانة تزيد الصلة بينها وبين زوجها، وأولي الفضل من أقاربها متانة وصفاء. وأنا لا أستبعد صحة ما أسمعه كثيراً من أن النزاع بين الرجال وزوجاتهم أصبح أكثر مما كان، وأن منشأ هذا الخصام تهافت النساء على التبرج الممقوت، وتساهلهن في الاجتماع بغير محارمهن. والواقع أن أنصار اختلاط الجنسين لا يؤيدهم تطور اجتماع صحيح، ولا يناصرهم العدل بين الأخ وأخته في تحصيل كل منهما أسباب كماله الخاص، ولا تقف بجانبهم مصلحة الأمة في حال، وليس معهم إلا أنهم فعلوا ذلك ففتحوا أبواب الجامعة للطالبات، وكان منكر وهذا الاختلاط على كثرتهم في تفرق، فلم يصدعوا بإنكارهم، واقتصروا على أن يرددوا هذا الإنكار في مجالسهم، وربما كتب أحدهم مقالة في صحيفة، أو قال كلمة في محاضرة. ولو عقد دعاة الإصلاح مؤتمرا أخلاقيا، ونظروا في شأن اختلاط الجنسين نظرا خاليا من كل هوى، وبسطوا القول في وجوه مفاسده، لكان لقرارهم شأن، وكان لرجال السياسة الرشيدة في أمر الفتيات رأي يجمع بين إعطائهن حظهن من التعليم، وصيانتهن من مواضع الفتنة والابتذال.
ــــــــــــــــــــــــ (1) نقلا عن محاضرات إسلامية لفضيلة الشيخ محمد الخضر حسين، جمعها وحققها علي الرضا التونسي، ص 190-200. المصدر: شبكة نور الاسلام
اختلاط الجنسين في نظر الإسلام ، للشيخ محمد الخضر يرحمه الله