تكملة
ثانياً: الصعيد السياسي، دفعت جماعة الإخوان ثمناً باهظاً في الحقيقة لحسابات سياسية مشابهة تاريخياً، لعل من أهمها، التظاهر طلباً لطرد شاه إيران السابق في أواخر عهد الرئيس المصري الراحل أنور السادات، وقد أثبتت الأحداث تالياً أن هذا الاندفاع الذي ارتكبته معظم أطياف الحركة الإسلامية في ذلك الوقت لم يكن له ما يبرره شرعاً ولا عقلاً، وخاضت فيه الحركة معركة سياسية لم تكن ذات فائدة، واستعدت الرئيس الراحل نصرة للخميني من دون أن يحقق ذلك أي هدف مفهوم لحد الآن، أو يتوافر له مبرر شرعي، ولا حتى منطقاً إنسانياً، لكن الأهم من الغوص تاريخياً الآن، هو النظر إلى تلك الحالة الآنية، التي يعجز عندها الفهم في عمل تقدير للموقف يمكن من خلاله فهم هذا التصرف الأخير للجماعة، الذي تحجز من خلاله الجماعة لها مكاناً عدائياً مع النظام، لا يمنحها مزية داخلية ولا تفيد منه خارجياً؛ فقد يسرت الجماعة على خصومها وصمها بمجافاة الوطنية، وفهم مغزى تقليلها من استخفاف واضح من "حزب الله" بالنظام المصري، والتخندق معه في لحظة فارقة.
ولا بأس من الاستطراد هنا قليلاً، للقول بأن معظم ما قيل من مبررات نصرة لـ"حزب الله" لا يندرج في خانة الإقناع والحجة؛ فمن يرد التنسيق مع مصر أو حتى يريد تأميناً لخليته حال انكشافها لا يستعدي القيادة المصرية قبلها بأسابيع، ويقطع كل القنوات التي يمكنه ولوجها إذا لم يسر السيناريو في الاتجاه الذي يريد، ما يعني بأن نصر الله نفسه لم يغطِ هذه الخلية أمنياً، ولم يبحث لها عن طوق نجاة إذا ما وقعت بين أيدي قوات الأمن المصرية، وهو بذلك لا يرتكب خطأ فادحاً ضد النظام المصري فحسب، بل أيضاً ضد خليته ذاتها، التي سارع محامي جماعة الإخوان للدفاع عنها.
أيضاً، هو لم يغطِ سياسياً تصريحات الإخوان التي بادرت إلى القول بأن الاتهامات "ملفقة"؛ فكشف الغطاء عن جدية هذه القضية وتهافت تلك التصريحات من دون أن يعر اهتماماً حاجته إلى التنسيق مع الجماعة، ما أحرجها، وحدا بها إلى إدارة التصريحات باتجاه آخر عن "الخط الأحمر"، وهو الخط نفسه الذي تكلم عنه حسن نصر الله عن مخيم نهر البارد قبل أن يصبح حجراً على حجر.
بل يزيد الأمر صعوبة حينما يبدو أن الطرف الآخر لا يحيي هذه المبادرات الإخوانية، كتلك التي وردت على لسان المرشد العام [المصري اليوم 18/3/2009] عندما قال لصحفي تركي: "إيران دولة شيعية، والشيعة ليست مذهباً دينياً، بل سياسى، ومن ثم نتعامل معها على أنها دولة سياسية لا مذهبية.. إذا أراد أحد أن يتحدث عن المذاهب، فليأت بفقهاء.. أما نحن كأشخاص، فنتحدث عن واقع ومصلحة الأمة، هذه مهمتنا (..) إيران قبل 30 سنة، كانت فقيرة ومعدمة وعشّش فيها الفساد والاستبداد، إلى أن جاء الخمينى وحررها، ووقفت في وجه أعتى بلاد العالم (أمريكا) وهو ما لم يفعله أي بلد عربي أو إسلامي خلال الـ30 عاماً الأخيرة نفسها.. لذلك فنحن ننظر للمسألة باعتبارها سياسية وليست مذهبية (..) وفعلا إيران لها قدر ومكان لأن موقف إيران ضد الصهاينة يرفع قدرها عند كل الشعوب العربية والإسلامية بصرف النظر عن مذهبها السياسي"؛ فبعد أسبوع واحد فقط كتب المنظر الشيعي المصري البارز د.أحمد راسم النفيس يعلق على تصريحات المرشد قائلاً: "لا شك أن أحد (إحدى) كبريات المصائب التي يعانى منها المسلمون هي جماعة الأبقار المقدسة التي تتصدى لقيادة القطيع لتنسفه في اليم نسفا، بينما تبقى هي على قيد الحياة لتواصل إطلاق جهالاتها الجاهلة وتسوق المسلمين نحو الهلاك!!.آخر هذه الجهالات التي أطلقها مرشد الإخوان المسلمين"!! [أحمد النفيس/ مرشد الإخوان والعجب الذي لا ينتهي ـ اليوم السابع 26/3/2009].
ويبدو الموقف أكثر إلغازاً حينما نعود إلى التصريح الآنف الذكر الذي ورد فيه على لسان المرشد قوله: "أنا أعجبني أثناء الاعتداء علي غزة موقف سوريا وهي تحتضن رموز المقاومة في فلسطين وتشكر سوريا علي هذا"؛ فبرغم تحفظه على قمع السوريين لإخوان سوريا على مدى ثلاثين عاماً إلا أنه وجه إليها شكراً ربما ساهم فيما بعد في بناء موقف لإخوان سوريا تالياً عندما انسحبت من جبهة الخلاص المعارضة دعماً لـ"المقاومة"، وهو ما يترجم تلقائياً على أن سوريا/النظام تمثلها، وينسف بدوره أسس معارضة الجماعة لها طوال ثلاثين عاماً قتلت فيه السلطات السورية من جماعة الإخوان فضلاً عن آخرين ما لم تقتله "إسرائيل" ذاتها في كل حروبها مع العرب، وكل الانتفاضات، وكل المواجهات اليومية على مدى ستين عاماً كاملة استناداً إلى معطيات حقوقية عديدة (بعضها قدر ضحايا القمع النصيري السوري بنحو 80 ألف قتيل خلال مذبحة حماة ـ ثم تدمر وغيرها ـ في فبراير1982)، وبالطبع علينا أن نقول للإنصاف في المقابل أن أكثر الإحصاءات إسرافاً فيما يخص محنة الإخوان إبان حكم الرئيس المصري جمال عبد الناصر لم تتعد أعداد القتلى فيها العشرات، فيما تتحدث مصادر تاريخية أخرى عن عدد أقل من ذلك بكثير؛ فعلى أي أساس إذن قد وضعت الحسابات السياسية الإخوان في خندق محور (إيران ـ سوريا ـ "حزب الله")؟!
فلن نقول عموماً إن إيران قد قتلت في العراق ألف ضعف ما قتلته "إسرائيل" في غزة مؤخراً، ولن نقول إن "حزب الله" قد ولد أساساً من رحم منظمة أمل التي ارتكبت مذابح هائلة ضد الفلسطينيين وقهرتهم وشلت حركتهم وأخرجتهم نهائياً من الصراع انطلاقاً من لبنان ـ بمساندة سورية ـ، لكن سنقول فيما يخص الجماعة وحدها أن إيران بعد 3 سنوات فقط من زيارة وفد رفيع المستوى من الإخوان للخميني لتقديم التهنئة بالثورة الإيرانية (ثورة المحرومين المستضعفين بالمناسبة!!) قد غضت الطرف تماماً، وصمت آذانها عن مذبحة حماة التي نفذها حلفاء السياسة والدين في دمشق.
فأي سلة تضع الجماعة فيها كراتها الآن؟! لاشك أن الحسابات السياسية ليست دقيقة (إذا ما تحلينا بالدبلوماسية)، ولا ريب أن خيار التخندق مع هذا المحور ليس موفقاً، مع أن من المفهوم تلقائياً أن البديل ليس صهيونياً بالضرورة بل مستقلاً نقياً لا يتورط لا مع هذا ولا ذاك؛ فلم تحشر الجماعة ذاتها في ضيق الخيار بين محورين كلاهما لا يرجو للأمة خيراً؟!
ناهيك عن أن جماعة قد نشأت قبل الكيان الصهيوني، وقبل اندلاع الثورة الشيعية في إيران، تختزل كل تاريخها، وتظلم حاضرها، وتدمر مستقبلها إذا ما رهنته بهذا أو بذاك. والأولى لها أن تتخذ موقفاً تصالحياً مع مبادئها، وتنضج مقاربة فكرية مع بعض خصومها في داخل وطنها عما تجد نفسها رهينة مقامرة خارجية لا تستند إلى أي مبرر ديني أو سياسي أو أخلاقي.
وإذا كانت غزة عزيزة على كل مسلم وعربي؛ فالعراق أيضاً كذلك، وسوريا، ومصر، وفي القلب القدس وكل المقدسات من الأقصى إلى جوار البقيع المعتدى عليه مؤخراً..
ثالثاً: الصعيد الشعبي الداخلي، ربما خال للبعض أن موقفاً مسانداً لقوى تتدثر بالمقاومة يفي للجماعة بشعبية جارفة، والتصاقاً بشخصية كحسن عبد الكريم زعيم "حزب الله" مفضٍ إلى الإفادة من "شعبيته" (المدفوعة الأجر من خلال الإعلام اليساري بمصر).
والتماهي مع أقاويل تتحدث عن دعم يقدمه الإيرانيون أو ذراعهم العامل في لبنان للفلسطينيين لن يفيد كثيراً أصحابها، كونها تصادم ما بات معروفاً لدى القاصي والداني في محيطنا العربي من اقتيات إيران وذراعها على القضية الفلسطينية واتخاذهما إياها تُرساً تدفع بها عن وجهها سهام اتهامات العالم الإسلامي لها بخيانة الأمة في العراق وأفغانستان وباكستان ولبنان واليمن وغيرها.
(دفعت إيران لغزة نحو 50 مليون دولار، مناظرة لما قدمته دولة صغيرة كقطر، وأقل كثيراً مما قدمه متبرعون في الخليج على سبيل التقدير لا الحصر، وبالمناسبة فإن المقاومة الفلسطينية تبتاع بطبيعة الحال السلاح من كل مكان ولو كان من تجار يهود أو خونة في الجيش الصهيوني، ولا منة لأحد إذا ما ثبت تزويد إيران للمقاومة بالسلاح، كونها مجرد بازار يبحث عن المقابل في عالم السياسة).
وأجدر بالجماعة ـ حفاظاً على شعبيتها ـ أن تقفز من سفينة الإيرانيين الخرقاء قبل أن تدفع الثمن من مصداقيتها شعبياً وسياسياً، وأهم من هذا وذاك دينياً..
رابعاً: الصعيد البنيوي الداخلي، وهو لاشك مما لم تبد الجماعة مدركة لمدى تأثيره إذا ما استمر النقد داخلها يرشح في وسائل الإعلام، وعبر المنتديات، والمواقع الحوارية الجاذبة لجموع شباب الإخوان، والتي لم يعد سراً أنها تمور بخلافات لا قبل للجماعة بها مع الزمن، لاسيما، أن الجماعة لم تعد ـ في ظل انسياب المعلومة ـ قادرة على منع أبنائها من الاطلاع على الانتقادات الهائلة التي تفيض بها وسائل الإعلام، ليس للجماعة فقط بل لإيران وسوريا و"حزب الله" ما يجعل أنصار الجماعة في حيرة كبيرة، بدت نواجزها تظهر حتى في مواقع الإخوان ذاتها ومدونات شبابها، بل لاشك أن ما اندفعت إليه الجماعة في نقل نقاشها الداخلي إلى العلن ـ مثلما بدا من خلال مناظرة القطبين البارزين، يوسف ندا، ود.محمود غزلان ـ تشي بأن الجماعة باتت أمام استحقاق قوي، دونه نقاشاتها الداخلية في مسائل سياسية كمشاركة في انتخابات أو نحوها، لأن الأمر قد أضحى الآن يعالج مسائل دقيقة تمس قناعات النخبة المثقفة داخل الجماعة التي لاشك أن صحفاً ومواقع إلكترونية قد أصبحت تهزها بقوة، ناقدة مواقفها من أزمة الشيخ الدكتور القرضاوي، ثم "خلية حزب الله".
إن معطيات العقيدة والسياسة والتاريخ والجماهير والبناء لا تفي للجماعة بما يؤسس قناعة حول موقفها من إيران وذراعها العسكري، ويجعل المراقب عاجزاً عن تفسير ما يجري، وجدوى ما تمارسه الجماعة على هذا الصعيد.. وريثما تمنح الباحثين عنوان سياستها، ستجد الاتهامات تتكاثر عليها، وستظل تعاني حصاراً فكرياً مصيرياً.
منقوووووووووول "المسلم"