كلمة «أزمة» في اللغة تعني الشدة، وهي هنا الشدة التي يستعصي حلها إلا ببذل جهد وإفراغ وسع. وكلمة «اقتصاد» في اللغة من القصد أي استقامة الطريق، وتعني كذلك التوفير وضد الإفراط. والكلمة في الأصل مشتقة من لفظ إغريقي قديم معناه تدبير أمور البيت بحيث يشترك أفراده القادرون في إنتاج الغذاء والقيام بالخدمات، ويشترك جميع أفراده بالتمتع بما يحوزون. ثم توسع الناس في مدلول البيت فصار يقصد به الجماعة التي تحكمها دولة واحدة.
وعليه فالمقصود هنا من كلمة الاقتصاد ليس المعنى اللغوي بل المعنى الاصطلاحي وهو تدبير شؤون المال إما بتكثيره وتأمين إيجاده ويبحث فيه علم الاقتصاد، وإما بكيفية توزيعه ويبحث فيه النظام الاقتصادي.
وبذلك فإن الأزمة الاقتصادية تعني الاضطراب الشديد في تدبير أمور الدولة المالية الذي يحتاج لبذل جهد وإفراغ وسع لإزالته وإعادة الوضع إلى الاستقامة والاعتدال، وليس المقصود بالأزمة الاقتصادية الخلل البسيط في الأمور المالية الذي يمكن معالجته بالوسائل العادية. فمثل هذا الخلل يتوقع حدوثه عادة في جميع شؤون الحياة ويمكن معالجته وقبوله في الحدود المسموح بها.
والدولة التي تسير على مبدأ صحيح ووجهة نظر سليمة لا يمكن أن يحدث عندها خلل بسيط ثم تسكت عن علاجه في الوقت المناسب حتى يتراكم ويصبح خللاً مركباً ينقلب إلى أزمة، ولكن تعالجه في بدايته. وفي هذه الحالة يكون العلاج سهلاً ميسوراً.
وحيث قد علمنا أن الأزمة الاقتصادية تعني الاضطراب الشديد في تدبير أمور الدولة المالية، يصبح لزاماً أن نتعرف في البداية على كيفية تدبير الدولة ـ أية دولة ـ أمورها المالية، ثم نبين احتمالات حدوث الأزمات في هذه الأمور ومن ثم بيان معالجتها. وحتى يمكن فهم ذلك لا بد من دراسة عاملين مهمين في تأثيرهما على الوضع الاقتصادي لأية دولة وهما:
1) وحدة التبادل المالي أي النقد.
2) ميزان المدفوعات.
أولاً: النقد
كان التعامل النقدي في العصور السابقة على أساس الزاوية المعدنية، حيث كان النقد يعني (قطعة من المعدن الثمين مسكوكة ومختومة من قبل السلطة تستعمل في العمليات التبادلية كافة).
وكان المعدن الثمين الذي اشتهر كنقد في تلك العصور هو الذهب والفضة، ثم قل الاعتماد على الفضة في أواخر القرن التاسع عشر، حيث زالت تقريباً الصفة النقدية عنه وبقي الذهب هو النظام النقدي المعمول به، واستمر التعامل النقدي على أساس القاعدة الذهبية حتى إنه لما ظهرت بعض الأوراق النقدية في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، كانت تلك الأوراق أوراقاً نائبة عن الذهب بمقدار قيمتها المكتوبة عليها كاملة، أي أن حاملها كان يملك تبديلها بالذهب في أي وقت.
واستمر التعامل على أساس القاعدة الذهبية إلى ما قبيل الحرب العالمية الأولى حيث اضطرت الدول المتحاربة إلى تعليقه، وقامت بسبب ظروف الحرب إلى إصدار أوراق نقدية بدون إلزام المصارف المركزية بتبديلها ذهباً حسب نظام القاعدة الذهبية.
وبعد انتهاء الحرب تداعت الدول إلى عقد مؤتمر جنوة 1922 وقررت العودة إلى نظام القاعدة الذهبية مع بعض التعديل الخفيف، حيث ربطت النقد بالذهب لكنها لم تجعل تبديل الأوراق النائبة بالذهب ميسوراً للأفراد إلا بقيمة معينة من الذهب حددت لها وزناً كحد أدنى، فمن أراد من الأفراد الحصول على الذهب من المصرف المركزي، عليه أن يبدل قيمة الحد الأدنى ـ وهو سبيكة ذهبية بوزن معين ـ حيث يحتفظ المصرف بأرصدته الذهبية بشكل سبائك من وزن معين كحد أدنى، ولقد كان الحد الأدنى في فرنسا مثلاً يساوي وزن (12) كيلو غراماً وسعرها كان (215) ألف فرنك، وهذه كمية كبيرة لذلك لم يعد بمقدور الأفراد الحصول على الذهب الذي حصر استعماله في التجارة الخارجية أو بمن يملكون أوراقاً نقدية بقدر عالٍ مناسب.
إلا أن محاولة العودة إلى قاعدة الذهب لم تعش طويلاً بسبب اندلاع الأزمة العالمية الكبرى سنة 1929 حيث انهارت أسعار الأسهم وطفق المتعاملون يتخلصون منها فحدث إقبال شديد على الأوراق النقدية، وسبب ذلك ضغطاً على تبديل الأوراق بالذهب، فعلقت دول العالم أجمع عملية تبديل الذهب بنقودها الورقية وأقرت التداول الإلزامي بدون تبديل بالذهب، وأول من نفذت ذلك بريطانيا سنة 1931، أميركا سنة 1933، فرنسا سنة 1936 وتبعتها الدول الأخرى واستمر التعامل النقدي مضطرباً حتى نهاية الحرب العالمية الثانية.
بعد انتهاء الحرب وفي 22 تموز 1944 تداعى عدد من الدول إلى عقد مؤتمر بريتون وودز بالولايات المتحدة الأميركية وقرروا إعادة ربط نقدها بالذهب لكن على نحو مختلف عن السابق وكان أبرز قراراته:
1ـ اشترط على الدول الأعضاء إعادة ربط نقدها بالذهب، أي يجب أن تحدد كل دولة وزناً معيناً من الذهب الصافي لوحدتها النقدية ولكن بدون حرية تبديل الذهب للأفراد أو لأية هيئة كانت تطلب الذهب مقابل الأوراق النقدية من المصرف المركزي، إلا أن الدولار وحده أعيد تبديله بالذهب بالنسبة للأرصدة الخارجية وكان ذلك لسببين:
الأول: أن أميركا خرجت بعد الحرب العالمية الثانية وهي تحتوي معظم الأرصدة الذهبية في العالم التي كانت تقدر آنذاك (38) مليار دولار، كان يوجد منها في أميركا (25) ملياراً أي حوالي ثلثي ذهب العالم.
والثاني: كان بسبب رغبة أميركا بالهيمنة السياسية والاقتصادية على العالم لأن الدول أصبحت غير ملزمة بالاحتفاظ بكامل أرصدتها النقدية بالذهب، بل وبأوراق نقدية صادرة من أميركا ـ دولارات ـ تلتزم أميركا بتبديلها ذهباً عند الطلب، ما جعل الدول الأخرى التي تحتفظ بأرصدة ورقية أميركية في مصارفها بدلاً من الذهب، مضطرة للمحافظة على علاقات سياسية واقتصادية معينة مع أميركا لضمان ثبات سعر تحويل الورق الأميركي إلى الذهب. وقد حددت أميركا سعر الدولار الرسمي بالذهب بواقع (35) دولاراً للأونصة.
وقد سمي نظام بريتون وودز بنظام الصرف بالذهب وذلك لأنه أقر احتفاظ الدول في أرصدتها بنقد ورقي قابل للتبديل بالذهب وهو الدولار يصرف ذهباً بسعر محدد من قبل أميركا عند الطلب ـ وقد اعتبر الإسترليني كذلك إلى حد ما قابلاً للتحويل لكنه لم يستمر طويلاً ـ .
2ـ اشترط على الدول الأعضاء أن تقوم بتثبيت سعر الصرف لنقدها، بسياسات معينة تضعها الدول متناسبة مع غطاء من الذهب والدولارات القابلة للتحويل إلى ذهب، وسمح المؤتمر بتقلبات لهذا السعر في حدود 1%; وإلا تدخلت الدول لإعادته.
3ـ قرر المؤتمر إنشاء منظمتين دوليتين:
الأولى: منظمة صندوق النقد الدولي، وأبرز أغراضه العمل على تحقيق الاستقرار النقدي الدولي وعلى تحقيق ثبات أسعار الصرف وجعل موارد الصندوق في متناول الأعضاء بنسبة حصصها فيه لمساعدتها على تقصير أمد الاختلال في ميزان مدفوعاتها.
وقد كانت طريقة إنشائه مصاغة بشكل يجعل هيمنة أميركية على قراراته، فإنهم جعلوا الأصوات التي تتمتع بها الدول تتوقف على حصتها في الصندوق، ولأن حصة أميركا فيه هي الأكبر (27.2%; من رأس المال) فإن قراراته كانت قرارات أميركية.
أما الثانية فهي منظمة البنك الدولي للإنشاء والتعمير والحق في عضويتها مقصور على أعضاء الصندوق، وأبرز أغراضه: إعادة ما دمرته الحرب ومساعدة الدول المتخلفة اقتصادياً وتقديم القروض والضمانات، وجعلوا التصويت فيه كما فعلوا بالنسبة للصندوق، أي الهيمنة الأميركية كذلك متحققة فيه.
هذه أبرز قرارات مؤتمر بريتون وودز الذي أقر نظام الصرف بالذهب، وقد استمر التعامل بموجبه حتى تم إلغاؤه نهائياً بقرار أميركا الشهير في 15 آب 1971 الذي ألغى قابلية الدولار للتحويل إلى الذهب.
بعد ذلك أصبح النقد يستعمل على أساس الزاوية الاسمية وصار تعريفه (أية مادة كانت، بصرف النظر عن شكلها ونوعها، تصبح بفضل القانون وسيطة عامة للتبادل المالي). وبالتالي أصبحت الأوراق النقدية الإلزامية هي المستعملة، وتأخذ قيمتها بقانون الدولة، وترتفع وتنخفض بحسب اقتصاديات الدولة وسياساتها وإجراءاتها المتبعة في ذلك كإدارة ميزانها التجاري وميزان مدفوعاتها وغير ذلك مما له علاقة.
ثانياً: ميزان المد فوعات
هو الحساب الشامل لجملة المدفوعات التي تمت خلال فترة معينة بين دولة ما ودول العالم الأخرى بغض النظر عن طبيعة الأعمال.
ويتكون الميزان من جانبين:
الجانب الأول (الدائن) ـ الإيرادات ـ ويتكون (حسب النظم الاقتصادية الحالية) من:
1ـ الصادرات المنظورة (جميع السلع المصدرة للعالم الخارجي).
2ـ الصادرات غير المنظورة (السلع المباعة والخدمات المقدمة إلى الأجانب المقيمين أو للسائحين، ما تشتريه الهيئات الدبلوماسية الأجنبية في البلد، نفقات سفر الركاب أو نقل البضائع لصالح الأجانب المستحقة لشركات مركزها في الدولة، عوائد أفلام، برق، هاتف، مكافآت إدارية... فنية، أقساط تأمين لرعايا أجانب لشركات محلية، وتعويضات للرعايا من شركات أجنبية، ونفقات الطلاب الأجانب في بلادنا وأمثالها).
3ـ القروض الأجنبية أي ما تقدمه البلاد الأخرى للدولة من قروض.
4ـ الفوائد والأرباح الأجنبية أي ما تدفعه البلاد الأخرى من فوائد وأرباح للدولة.
5ـ المنح والهبات التي تحصل عليها الدولة أو رعاياها من الدول الأخرى ورعاياها.
الجانب الثاني (المدين) ـ المدفوعات ـ وأبرز مكوناته:
1ـ الواردات المنظورة (جميع السلع المستوردة من المصادر الخارجية).
2ـ الواردات غير المنظورة (السلع المباعة والخدمات المقدمة إلى رعايا الدولة الذين يقيمون مؤقتاً في الخارج أو للسائحين من رعاياها، نفقات سفر الركاب ونقل البضائع لصالح رعايا الدولة من قبل شركات النقل الأجنبية، نفقات طلاب يدرسون في الخارج، شراء سلع أو خدمات من الأجانب بواسطة الهيئات الدبلوماسية للدولة، عوائد أفلام سينما، برق، بريد، هاتف، مكافآت أقساط تأمين الشركات الأجنبية، تعويضات الأجانب من الشركات الوطنية وأمثالها).
3ـ القروض للخارج.
4ـ الفوائد والأرباح للخارج.
5ـ الهيئات والمنح والمساعدات للخارج.
ويظهر ميزان المدفوعات الحركة الحقيقية للنقود من الدولة إلى الدول الأخرى ولا يظهر بأي حال من الأحوال القيمة الكلية لما للدولة وما عليها قبل العالم الخارجي.
ويسمى ميزان الصادرات المنظورة والواردات المنظورة لسنة ما بالميزان التجاري، وتسمى الصادرات المنظورة وغير المنظورة والواردات المنظورة وغير المنظورة بالعمليات الجارية في ميزان المدفوعات.
وعلى الرغم من أن الميزان التجاري ـ بند الصادرات والواردات ـ هو أهم تلك البنود ويمثل في كثير من الحالات حوالي الثلثين من المجموع إلا أن ميزان المدفوعات لا يعكس الميزان التجاري لأنه يحتوي عناصر غيره، فمثلاً كان ميزان مدفوعات ألمانيا سنة 1925 متعادلاً والسبب كان حصول ألمانيا على قرض دوزوينج البالغ (900) مليون مارك وليس لأن صادراتها أكثر من وارداتها أو مساوية لها، وكذلك ميزان مدفوعات أميركا سنة 1929 (عجز) والسبب أن الولايات المتحدة كانت تستثمر في الخارج قدراً كبيراً من إيراداتها من العملات الأجنبية وليس لأن هناك عجزاً في ميزانها التجاري. ولذلك فإن العجز في ميزان المدفوعات أو التعادل يحتاج إلى دراسة مستفيضة لجميع العناصر ذات العلاقة، قبل الحكم على التوسع في التصدير أو الاقتراض أو الاستثمار لإعادة التعادل إليه.
والآن وبعد أن عرفنا واقع النقد وميزان المدفوعات يتبين لنا أن احتمال وقوع أزمة اقتصادية وارد كنتيجة لواقع النقد وميزان المدفوعات على النحو التالي:
1ـ الأزمات الاقتصادية نتيجة واقع النقد:
عندما كان العالم يسير على نظام القاعدة الذهبية في تعامله النقدي كان يعيش في مرحلة من الازدهار ـ الاقتصادي والاستقرار النقدي ـ وعندما زال وحل محله نظام الصرف بالذهب أخذت تظهر الاضطرابات النقدية، حتى أن فترات الاستقرار أصبحت هي الاستثناء، ثم ألغي نظام الصرف بالذهب وأصبح التعامل بالأوراق الإلزامية المجردة زادت الحالة سوءاً، وأصبحت الأزمات تتسارع الواحدة تلو الأخرى.
لقد كان نظام القاعدة الذهبية يضمن سعر صرف ثابت، فإن الوحدة النقدية لكل دولة كانت ذهباً أو أوراقاً نائبة عن قيمتها الكاملة بالذهب وقابلة للاستبدال في أي وقت، ولذلك فسعر الصرف بين نقد الدول كان ثابتاً لأنه منسوب إلى وحدة ذهبية متعارف عليها. فمثلاً الدينار في الإسلام محدد (4.25) غم ذهباً، والجنيه البريطاني كان محدداً حسب القانون بغرامين من الذهب الصافي، والفرنك الفرنسي يساوي غراماً واحداً وهكذا. لذلك كان سعر الصرف ثابتاً.
ولقد حقق هذا النظام الاستقرار وتثبيت قيمته الوحدة النقدية على الصعيد الداخلي والخارجي على السواء والدليل على ذلك أن الأرقام القياسية للأسعار بالذهب عام 1910 كانت تقريباً في المستوى نفسه التي كانت عليه في 1890.
وأما بعد إلغاء هذا النظام فقد أصبح حدوث الأزمات لافتاً للنظر:
يتبع